لا يمكن أن نصف ما يحدث من حرق وذبح وسحل ورجم لأشخاص بأنه قصاص، ولا يمكن أن نطلق عليه عدلاً بأى شكل من الأشكال حتى ولو كان المحروق مجرماً أو المسحول بلطجياً أو المذبوح قاطع طريق، ما يحدث هو فوضى وبلطجة مضادة وعودة لشريعة الغاب وشطب لـ«ألف باء» القانون وبديهيات العدالة، فهذا المصرى الذى كان يغمى عليه من منظر فرخة مذبوحة صار الآن يحرق إنساناً بتلذذ وهو يرقص ويصفق بل ويصور حفلة الحرق بالموبايل!! هذا المصرى أصبح الآن يذبح ويرجم ويسحل بكل سهولة وكأنه يصفف شعره!! والخطر الأكبر والمصيبة الأدهى ليست فى الشخص المحروق أو المسحول فقط ولكنها أخطر فى الشخص الحارق أو الساحل الذى سيتعلم غلظة الإحساس وبرودة الضمير ويتآلف مع القبح والعنف ويصير منظر نافورة الدم بالنسبة إليه ألطف من منظر نافورة الحديقة، ويصبح الرجم والسحل مشهداً يبهجه أكثر من أفلام إسماعيل ياسين.

سيرد البعض: دول مجرمين وقتلة وبلطجية روعوا القرى ونشروا الرعب والفزع، إذا كان قد حدث كل ذلك فهناك القانون بأقصى عقوباته التى تصل إلى الإعدام، ولا ينفع أن يتقمص عابر السبيل الفرد دور القاضى ويصدر الحكم وينفذه بآلياته الخاصة ويستخدم فى ذلك لفظ الحرابة على أى عمل انتقامى ينفذه، المجتمعات المتحضرة خرجت من قانون الغابة بالقانون وبالعقوبات القانونية ودرجات التقاضى وحق المتهم فى الدفاع عن نفسه بمحام.. إلى آخر هذه الإجراءات التى تعكس درجة التحضر والرقى، ولم تترك لنوازع الفرد الانتقامية أن تنطلق من عنانها بلا ضابط أو رابط كالوحش الأهوج، فلسفة العقاب الآن إصلاحية أكثر منها انتقاماً وتشفياً، وحتى العقوبات تتطور بتطور المجتمعات، وإن نفذنا قانون القصاص بالحرابة على مجرم من يدرينا غداً أن يقع برىء فى براثن هؤلاء من الذين سينفذون عليه الحد تارة لأن آراءه لا تعجبهم أو لأن دمه ثقيل على قلوبهم.

خطأ بل جريمة أن يحتفى الإعلام بهذه السلوكيات الهوجاء الفوضوية ويطلق عليها قصاصاً عادلاً، قاعدة «المتهم برىء حتى تثبت إدانته» قاعدة ذهبية فى القانون تضمن للمجتمع استقراره والاحتفاظ بإنسانيته، و«حتى تثبت إدانته» طرقها ودروبها مقننة ومعروفة، ومليون متهم خارج السجن أفضل من برىء واحد خلف الأسوار، القانون أعظم اختراع بشرى فى الكون، ونصوصه نتيجة رحلة كفاح بشرية حضارية طويلة مضنية، قبل أن نمارس الفوضى باسم الحرابة لا بد أن نناضل للحفاظ على رقى أحاسيسنا وتحضر سلوكياتنا ولا نعقد اتفاقية صلح مع الدم والعنف والدمامة والقبح.